بقلم الأستاذ محمد عيدني – باريس
تعيش المستشفيات الفرنسية على وقع غضب عارم وقلق متصاعد بعد إعلان الحكومة عن التوجه نحو تخفيض غير مسبوق في ميزانية الصحة لعام 2026، ضمن مشروع قانون تمويل الضمان الاجتماعي (PLFSS)، الذي يعد أحد النصوص المحورية في السياسة الاجتماعية والاقتصادية للدولة.
ففي الوقت الذي تنتظر فيه المؤسسات الصحية زيادات مالية لمواجهة تحديات الشيخوخة السكانية، وارتفاع الأمراض المزمنة، وتزايد كلفة الأدوية والطاقة، جاء المشروع الجديد ليقترح خفضاً حاداً في نمو نفقات التأمين الصحي، مما أثار استنكاراً واسعاً في الأوساط الطبية والإدارية.
“أسوأ تقشف منذ عقد ونصف”
ترى الاتحادات الممثلة للمستشفيات العامة والخاصة، ومؤسسات العلاج المنزلي، أن ما أسمته الحكومة “تعديلاً عقلانياً للإنفاق الصحي” ليس سوى «أقسى سياسة تقشف» تشهدها المنظومة الصحية منذ سنة 2010.
فالمؤشر المالي المعروف بـ “الهدف الوطني لنفقات التأمين الصحي” (Ondam)، الذي يُعد مقياساً رئيسياً لميزانية القطاع، لم يعرف من قبل هذا المستوى المنخفض.
فبعد أن بلغت ميزانية 2025 نحو 265,9 مليار يورو بزيادة قدرها 3,4%، يقترح مشروع 2026 رفعها إلى 270,4 مليار يورو فقط، أي زيادة لا تتجاوز 1,6%، وهو رقم وصفه المهنيون بـ«الخيالي» بالنظر إلى وتيرة ارتفاع النفقات الحقيقية التي تفوق 4% سنوياً.
وبلغة الأرقام، يعني هذا القرار نقصاً فعلياً يقارب 1,1 مليار يورو، أي ما يعادل 20 ألف وظيفة تمريضية، وهو ما تعتبره النقابات «طعنة في قلب المنظومة الاستشفائية» التي تعاني أصلاً من خصاص مهول في الموارد البشرية.
تدهور الجودة وصعوبة الولوج إلى العلاج
تحذر المؤسسات الصحية من أن هذا التوجه سيقوّض جودة الخدمات ويفاقم الضغوط على الأطباء والممرضين، كما سيؤدي إلى تجميد الاستثمارات في المعدات والتجديد التقني، وبالتالي إلى تراجع فرص المرضى في الحصول على علاج سريع وفعّال.
ولم يقتصر الجدل على تمويل المستشفيات فحسب، بل شمل أيضاً الزيادات المرتقبة في المساهمات المالية للمرضى، مثل رفع “الفرانشيز” الطبية والمبالغ الجزافية التي يتحملها المؤمن عليهم. خطوةٌ ترى فيها الاتحادات الصحية «تحميل عبء الإصلاح للفئات الأكثر هشاشة دون أي تحسن في الخدمات».
بين الحسابات المالية وروح التضامن
يتزامن هذا السجال مع احتفال فرنسا بالذكرى الثمانين لتأسيس نظام الضمان الاجتماعي، رمز العدالة والتضامن الوطني. ومع ذلك، تعتبر النقابات أن الحكومة «تسير في اتجاه مغاير تماماً لروح المؤسسين»، إذ يغلب على مشروعها «منطق المحاسبة البحتة» على حساب قيم المساواة والتكافل الاجتماعي التي قامت عليها المنظومة.
وفي الوقت نفسه، تتجه الأنظار نحو وزيرة الصحة الجديدة، ستيفاني ريست، التي دُعيت إلى فتح حوار وطني مسؤول حول مستقبل النظام الصحي. فكما تقول الاتحادات في بيان مشترك:
“تخفيض الميزانية دون إصلاح عميق يعني ببساطة إضعاف جودة الرعاية وتقويض مبدأ المساواة في الوصول إلى العلاج.”
